هل تتضرر القاهرة من تقارب محتمل بين السودان وإثيوبيا؟

0

يعيش السودان حالة غليان سياسي منذ أكتوبر 2021، حين أقدم الجيش على الإطاحة بالحكومة المدنية التي تُشاركه الحكم بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك. وبينما هدف الانقلاب إلى تمكين سيطرة العسكريين عبر تشكيل حكومة مدنية صورية جديدة لإكمال الإطار الدستوري الشكلي للفترة الانتقالية، فإن أحداث الأيام اللاحقة عصفت بآمال العسكريين الذين فشلوا في تسمية رئيس وزراء جديد، واضطروا مؤخرا لتنصيب حكومة ضعيفة بدون رئيس. في المقابل، رفعت القوى المدنية سقف مطالبها، وأعلنت فك ارتباطها كُليا بالجيش، لتقف البلاد أمام عدة سيناريوهات مجهولة، لعل أقربها على الأرض، وإلى قلب العسكريين أيضا، هي الدعوة لانتخابات رئاسية مُبكرة بمَن حضر.

في خضم تلك الأحداث الداخلية الملتهبة، ولَّى نائب رئيس المجلس السيادي السوداني، الفريق أول “حميدتي”، وجهه صوب أديس أبابا، متجاهلا حِدَّة التوتر المُشتعل بين البلدين، والمُتفاقم غضبا على حادثة مقتل ستة جنود سودانيين إثر هجوم مُسلح شنَّه الجيش الإثيوبي على الحدود أواخر العام الماضي. ويمكن تفسير سعي المجلس العسكري الحثيث لإعادة التواصل مع إثيوبيا في ضوء الدور القديم الناجح الذي لعبه الرئيس الإثيوبي “آبي أحمد” في التوسُّط بين الفرقاء السودانيين، ما جعله نافذة المدنيين المُفضَّلة لفتح الحوار المستعصي مع الجيش.

الوسيط الإثيوبي

في ظل عدم وجود وسيط موثوق به قادر على اختراق الأزمة السودانية الداخلية، فشلت كل التحركات الدولية الرامية إلى لمِّ شمل كل الأطراف للجلوس على مائدة الحوار مُجددا. غير أن عودة أديس أبابا تحديدا بعد إخفاق ست مبادرات دولية وإقليمية ومحلية قد تُغيِّر المشهد، لا سيما وإثيوبيا هي الوسيط الأكثر حضورا وتأثيرا في صفوف قوى الحرية والتغيير، كما أنها تمتلك أيضا روابط مع قادة المجلس العسكري، وخاصة حميدتي. وقد مكَّن هذا الدور أديس أبابا سابقا من انتزاع موافقة الأطراف السودانية على المبادرة الإثيوبية التي حدَّدت أُطُر تقاسم السلطة بين طرفَيْ النزاع، ورسمت هياكل الحكم خلال الفترة الانتقالية.

نجح الوسيط الإثيوبي حينئذ، وارتبط نجاحه أساسا بالمواقف الإيجابية التي اتخذها آبي أحمد فيما يخص الثورة السودانية، تزامنا مع تصدُّره للإصلاح والتحوُّل الديمقراطي في بلاده آنذاك (قبل أن يخوض حربا أهلية دموية ضد خصومه في تيغراي)، على عكس رد الفعل الرسمي الصادر من القاهرة. فبينما حافظت إثيوبيا على حيادها تجاه التظاهرات المناهضة لحكم البشير، ظلَّت مصر داعمة للرئيس السوداني المخلوع “عُمر البشير” حتى لحظاته الأخيرة، وهو ما أدَّى إلى رفض الوساطة المصرية من قِبَل المُكوِّن المدني، لا سيما أنها سعت من خلال رئاستها للاتحاد الأفريقي في ذلك الوقت إلى تمكين قادة الجيش من الاحتفاظ بحُكم البلاد. أضف إلى ذلك أن نقاط المبادرة الإثيوبية نفسها حاولت مراعاة توقُّعات كل طرف دون تمييز، مما أوحى للجميع أنهم قادرون على الاستفادة من المبادرة وتحقيق ولو جزء من مصالحهم عبرها.

في نهاية المطاف، رفضت القوى السياسية السودانية مبادرة “جوبا” المدعومة من القاهرة، التي تبعها خروج مظاهرات في العاصمة السودانية الخرطوم تنديدا بما اعتبره الغاضبون “تدخُّلا من السيسي في الشأن السوداني”. وعلى النقيض، لم تغب أديس أبابا عن المشهد السياسي منذ تولِّي عبد الله حمدوك رئاسة الحكومة، وترجمت ثقلها على الأرض بوصول حكومة مدنية مؤقتة تعهَّدت ضمنيا بتأييد سياسات آبي أحمد في القضايا الإقليمية، والاصطفاف معها ضد أي أزمات مع دول الجوار، خاصة مصر.

احترقت إذن أوراق القاهرة في الخرطوم، وكان لذلك شواهد عديدة، أبرزها أن السودان لم يُعلن تأييده للسياسات المصرية تجاه أزمة سد النهضة، فقد أخذ حمدوك اتجاها مختلفا عن سياسات البلاد السابقة الأقرب إلى القاهرة. وبينما انتظرت مصر من رئيس الوزراء الاحتجاج على الممارسات الإثيوبية، أو إعلان دعمه غير المشروط للموقف المصري، أعاد الرجل رسم المسار السياسي لبلاده من جديد، وأعلن انحيازه (في بداية حُكمه) لمواقف آبي أحمد حول سد النهضة، واعتبر أن الهدف من إنشائه إنتاج الكهرباء لا محاصرة دولتَيْ المصب وفق ما تعتقد القاهرة. وأيَّد حمدوك أيضا أديس أبابا على حساب القاهرة حين تحفَّظ السودان على قرار الجامعة العربية بدعم مصر في ملف سد النهضة، وهي تحركات استدعت من القاهرة استنفار حلفائها العسكريين في السلطة الذين نجحوا في تحييد السودان بعد ذلك، وتغيير موقفه الرسمي، الذي أفضى في النهاية إلى التباعد بين الخرطوم وأديس أبابا لصالح العلاقات المصرية-السودانية التقليدية.

عساكر السودان.. بين مصر وإثيوبيا

في ظل هذه المصالح المتضاربة بين أديس أبابا والقاهرة في السودان، اختلفت سياستا البلدين إلى حدٍّ بعيد في التعامل مع الفصل الأخير من الأزمة السياسية السودانية، الذي بدأ باجتماع في ساعة متأخرة من مساء 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، بين الفريق أول “عبد الفتاح البرهان” وحمدوك، انتهى بانقلاب قادة الجيش وقوات الدعم السريع على المُكوِّن المدني في السودان، إذ اعتقل المُكوِّن العسكري رئيس الحكومة الانتقالية وعددا من وزرائه، ثمَّ حلَّ مجلس السيادة وفرض حالة الطوارئ وأعفى الحكومة وحُكام الولايات من مهامهم، وتسري تلك القرارات حتى اللحظة منذ استقالة حمدوك، الذي عاد إلى منصبه لفترة وجيزة إثر اتفاق هش سرعان ما انهار.

حافظت القاهرة على موقعها على الرقعة، وتمسَّكت بدعم عسكر السودان بقيادة البرهان، حيث هاجمت القنوات المصرية التابعة للأجهزة السيادية حكومة حمدوك والمدنيين، وبرَّرت الانقلاب بدعوى إنقاذ البلاد. على النقيض، دعا البيان الصادر عن الخارجية الإثيوبية في خضم التوترات إلى عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية للسودان وإيجاد حل بين الأطراف المتناحرة، وهو موقف تكرَّر عقب استقالة رئيس الحكومة السودانية من منصبه. وقد حصدت إثيوبيا ثمار سياستها المحايدة سريعا بالنظر إلى عودتها الوشيكة لدور الوسيط في الأسابيع الأخيرة، رغم غيابها عن المشهد لأشهر بسبب الحرب الأهلية في تيغراي.

تواجه الطبقة العسكرية الحاكمة في السودان حاليا غضبا شعبيا متصاعدا في ظل رفع الشارع سقف مطالبه برفض أي شراكة مع العسكر، وهو ما يعكس أزمة بين القوى السياسية الضالعة في المشهد منذ 2019. وفي ظل عدم وجود وسيط قادر على اختراق الأزمة، أخفقت ست مبادرات للوصول إلى تسوية، ثمَّ زادت الأمور تعقيدا عندما دخلت أطراف دولية مثل الاتحاد الأوروبي، الذي حاول التضييق على العسكريين في السودان، علاوة على تهديد الولايات المتحدة المستمر بفرض عقوبات على الأشخاص الذين يعرقلون التحوُّل الديمقراطي في السودان، وهو تهديد نُظِر إليه على أنه يستهدف البرهان وحميدتي بالأساس.

في خضم تلك التعقيدات، لجأ المجلس العسكري إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي بوصفها إحدى الدول المعنية ببقاء الحكم العسكري، ومن ثمَّ سارع إلى التطبيع لعله يُبقيه في السلطة ويمنحه حصانة من الضغط الدولي. وقد زار الوفد الإسرائيلي الخرطوم مؤخرا وحمل على عاتقه مهمة التوسُّط لدى واشنطن من أجل تخفيف الضغط على العسكريين السودانيين، وهو ما أتى بالتزامن مع انطلاق حوار بين عدة قوى مدنية سودانية بإشراف من الأمم المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، وافق رئيس المجلس السيادي في وقت سابق على المبادرة التركية لحل الخلافات مع إثيوبيا، في ظل مساعٍ من الإمارات وإسرائيل للقيام بالدور نفسه.

جاء توقيت زيارة الوفد الإسرائيلي إلى السودان، التي تبعها انطلاق حميدتي إلى أديس أبابا (العاصمة المُقرَّبة إلى إسرائيل)، لتشي بأن عسكر السودان يبحثون عن أوراق جديدة قدر الإمكان هذه الأيام، وأن بعض تلك الأوراق قد يجذبهم إلى مدار قوى لا تعجب القاهرة أو لا تلعب دورا بنَّاء بالنسبة إليها في ملف سد النهضة تحديدا، مثل إثيوبيا وإسرائيل وتركيا أو حتى الإمارات.

القاهرة والتقارب المحتمل بين السودان وإثيوبيا

عقب إسقاط حكومة البشير، هندست مصر علاقاتها الجديدة مع السودان عبر بوابة المجلس العسكري الذي دعم الموقف المصري قلبا وقالبا، في الوقت الذي انحاز فيه حمدوك وحكومته إلى إثيوبيا التي نجحت في استمالة القوى المدنية لصالحها بسبب توتُّر علاقاتها السابقة بمصر. بيد أن المعادلة حاليا تتغيَّر، إذ إن المجلس العسكري المُتخوِّف من العقوبات الدولية، التي قد تقوِّض الاقتصاد السوداني المأزوم، بات في حاجة شديدة إلى توافق سياسي ولو محدود مع المُكوِّن المدني ليتفادى الضغط الدولي، ما يعني أن أي وساطة إثيوبية محتملة لديها فرصة للنجاح، ومن ثمَّ يمكن أن تؤدي إلى انقلاب وشيك في موقف السودان من ملف سد النهضة مرة أخرى.

يؤكِّد ذلك الطرح عدم وجود تنسيق وتعاون سوداني-مصري في ملف سد النهضة الآن، وأن مواقف البلدين جاءت متناقضة مؤخرا في كثير من الأحيان. فمن جهتها، تُصِرُّ الخرطوم على إعطاء دور أكبر لخبراء الاتحاد الأفريقي، بعكس القاهرة التي تُعارِض تلك الرؤية وتراها في صالح إثيوبيا، التي تمتلك نفوذا كبيرا في أروقة الاتحاد الأفريقي. وظهرت تقلُّبات الموقف السوداني جليا بعدما أقرَّت وزيرة الخارجية السودانية السابقة “مريم الصادق المهدي” في كلمة لها بمجلس الأمن قبل الانقلاب الأخير بثلاثة أشهر قائلة إن السودان سيجني فوائد من السد، وهي تصريحات عكست تذبذب موقف بلادها.

في مواجهة تلك التحوُّلات، أعلنت إثيوبيا مؤخرا أنها بصدد إنتاج كهرباء من سد النهضة، ودعت السودان للاحتفال بذلك، ومن ثمَّ خفَّض السودان بدوره تصعيده خلال الزيارة التي قام بها حميدتي إلى أديس أبابا، وسط استقبال رسمي حافل، حيث استقبله في المطار كلٌّ من وزير الدفاع ومدير الاستخبارات في الحكومة الإثيوبية. وتخشى مصر حاليا أن ينجرف السودان إلى الدعوة العلنية التي أطلقتها إثيوبيا لدولتَيْ المصب بتغيير خطابهما تجاه السد، على اعتبار أنه يحمل فوائد عدة لهما ولن يُسبِّب ضررا جسيما لهما، وهي ذاتها الرؤية التي تبنَّاها الرئيس السابق عمر البشير، ومن بعده رئيس الحكومة السابق عبد الله حمدوك، الذي يُمثِّل الأخير رأي قطاع كبير من القوى السياسية السودانية.

على مدار عشر سنوات، كانت مصر فعليا بلا حلفاء في أفريقيا يستطيعون الضغط على إثيوبيا في مسألة سد النهضة، وإقناعها بتوقيع اتفاق مُلزِم حول آليات تشغيل السد وملء الخزان وحجم المياه التي ستُضخ في موسم الجفاف. ولا تزال أديس أبابا حتى الآن ترفض الشروط المصرية والسودانية، وترغب بالوصول إلى مبادئ إرشادية عامة تمنحها الحق في البناء دون ضمانات. هذا وسبق أن رفضت أديس أبابا احتفاظ القاهرة بحصتها التاريخية في مياه النيل (55 مليار متر مكعب) بدعوى أن ذلك سيؤثر على الحصة الإثيوبية وقت الجفاف المتوسط والممتد أثناء الكوارث الطبيعية. وبينما تتجه إثيوبيا الآن إلى التقارب مع الخرطوم، أعلن مدير مشروع سد النهضة أن نسبة إنجاز البناء بلغت 83%، وأن الاستعدادات جارية على قدم وساق لإنتاج الطاقة من السد عبر تشغيل توربينَيْن بسعة 700 ميغاوات، مما يعني أن السودان قد يتفاوض على شراء الكهرباء بأسعار تنافسية في ظل احتياجه الداخلي.

في الأخير، لم ينتهِ بعد مخاض الحكم الجديد في السودان، ولم يتضح شكله النهائي والمستقر منذ 2019، ويبدو أن النتيجة النهائية لتدافع العسكر والمدنيين في السودان لن ترسم فقط مصير الدولة السودانية من داخلها، بل ومصير عدد من الملفات الإقليمية أبرزها العلاقات مع القطبين الأهم في وادي النيل، مصر وإثيوبيا، ومصير الأزمة الأشد بينهما منذ شروع أديس أبابا في مشروع سد النهضة. والأيام القادمة وحدها ستُسفر عن مآلات تلك الأزمات المتشابكة داخل السودان وفي محيطه الإقليمي المباشر، وما إن كانت الوساطة الإثيوبية ستنجح في خضم الاضطرابات التي عصفت بإثيوبيا، أم أن مصر ستنجح في ترجيح كفتها في الخرطوم عبر أوراقها التقليدية.
المصدر : الجزيرة

قد يعجبك ايضا

اضف ردك !

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com