صحيفة بريطانية تنشر تقرير مثير عن الأوضاع في مدينة الجنينة

0

الصراع الإثني يحول مدينة الجنينة السودانية إلى رماد
الأوضاع وصلت لمرحلة يمكن أن تؤدي إلى فناء تلك المنطقة مع تصعيد الاقتتال وانحراف الحرب نحو النزاع القبلي

تبدو مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، مكسورة الخاطر وتكاد مآقيها تتحجر بالدموع، تنتحب في صمت على وقع الموت والنزوح الجماعي والتدمير والحرق بسبب الحرب الدائرة في الخرطوم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

المدينة التي يسكنها نحو مليون شخص كانت شوارعها زاخرة بالحكايا، وتعمر ذاكرة أجيالها أشعار محمد الفيتوري ورقصات الدوبيت والفرنقيبة والهجوري إلى جانب جلسات شاي البرامكة ذات الطقوس المميزة والأغاني الشعبية الجماعية.

لكن الجنينة تأثرت باشتعال العاصمة السودانية، وسرعان ما تمددت إليها شرارة النار التي حولتها إلى كومة من الرماد والجثث وجحيم أتى على الأخضر واليابس، بينما خلف الصراع الدامي حوالى 1100 قتيل، بحسب الخارجية الأميركية، إلى جانب آلاف النازحين الذين فروا إلى دولة تشاد.

دار أندوكا

تعتبر مدينة الجنينة عاصمة لدار مساليت التي نشأت فيها سلطنتهم وانضمت إلى السودان الإنجليزي – المصري بموجب اتفاق عام 1919، وكان السلطان محمد بحر الدين الملقب بأندوكا، أول سلطان للمساليت نقل العاصمة من مدينة دار جيل إلى الجنينة التي اهتم بعمرانها وأقام فيها الحدائق والبساتين.

وخلال فترة الحكم الثنائي وحتى ما بعد استقلال البلاد أصبحت الجنينة جزءاً من مديرية دارفور ثم تحولت أخيراً عاصمة لولاية غرب الإقليم، وأصبحت مدينة سياحية وتجارية مهمة.

 

وتقع الجنينة في أقصى غرب السودان وتعتبر بوابته ومعبره إلى دول غرب أفريقيا، فهي تتمتع بحدود دولية مع تشاد وأفريقيا الوسطى في ظل ارتباط تجاري وثيق مع دول أخرى مثل الكاميرون ونيجيريا، وهي السلطنة الوحيدة التي لم يتم استعمارها في القارة السمراء، وكانت لها انتصارات كبيرة على الفرنسيين في غرب السودان.

تقع مدينة الجنينة على ارتفاع 800 متر عن سطح البحر وتبعد مسافة 1200 كيلومتر عن العاصمة الخرطوم، وكان للمهاجرين من ليبيا قدح معلى في تأسيس المدينة، ومنهم مفتاح الفيتوري والد الشاعر الكبير محمد الفيتوري الذي ولد في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1936 بدار أندوكا.

وتعتبر قبيلة المساليت صاحبة الأرض والإدارة، إضافة إلى قبائل القمر والزغاوة والتامة والإرنقا والكوندي ومسيرية الجبل، مع مكونات وافدة من وسط السودان وشماله مثل قبيلة الجعليين، وتدير كل هذه المجموعات شؤونها وفقاً لنظام الإدارة الأهلية تحت إمرة قبيلة المساليت.

نزاعات ممتدة

تحتفظ مدينة الجنينة بذكريات أليمة من الحرب الأهلية الطاحنة، ففي أبريل (نيسان) 2022 شهدت مدينتا كرينك والجنينة اشتباكات دامية راح ضحيتها أكثر من 200 قتيل وعشرات الجرحى. وفي الأسبوع الأخير من مايو (أيار) الماضي اندلع صراع مسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع سرعان ما تحول إلى نزاع أهلي بين المساليت والقبائل العربية نتجت منه مجازر وحالات نزوح قصري، وتفاقم الوضع الإنساني والأمني والصحي وتعرضت الأسواق ومدخرات المواطنين إلى النهب والسلب مع تدمير الممتلكات العامة والخاصة، بينما خلف الصراع الدامي آلاف القتلى والجرحى.

واتجهت الأوضاع إلى منعطف خطر عقب اغتيال والي غرب دارفور خميس عبدالله أبكر، وأحد رموز قيادات قبيلة المساليت، ولم تكن هذه الحادثة الوحيدة فقد سبقها بأيام مقتل طارق عبدالرحمن بحر الدين، شقيق سلطان دار مساليت.

صراع إثني

المتخصص في قضايا النزاع في دارفور عز الدين دهب يرى أن “الأوضاع في الجنينة وصلت إلى مرحلة يمكن أن تؤدي إلى فناء تلك المدينة بالكامل، مع تصعيد الاقتتال وانحراف الحرب نحو النزاع القبلي بين العرب والمساليت”، واعتبر أن “الإقليم في حال صراع مستمر ومتجدد منذ عام 2003، بعد أن شهد أسوأ حرب في المنطقة أدت إلى مقتل أكثر من 300 ألف ونزوح مليوني شخص”.

وأشار دهب إلى أن “ولاية غرب دارفور من أكثر الأقاليم تأثراً بالمعارك، خصوصاً عقب اندلاع الاشتباكات المسلحة في الـ 15 من أبريل الماضي والتي شهدت اجتياحاً كاملاً لمدينة الجنينة، وانتقل الصراع إلى المكونات الاجتماعية في ظل غياب جهاز الحكومة الذي كان الحلقة الأضعف بعد أن اختفى ملمح الدولة تماماً، في ظل انشغال الحكومة المركزية بالحرب الدائرة في الخرطوم وعدم وجود رادع قوي يقف بين المكونات المتقاتلة، ناهيك عن اختفاء قوات الشرطة من المشهد وانقطاع الاتصال بين الجنينة والعاصمة السودانية وبقية المدن الأخرى بسبب قصف شبكات أبراج الاتصالات”.

وبين المتخصص في قضايا النزاع في دارفور أن “المجازر الحالية في غرب الإقليم لها ثلاثة أبعاد، الأول الحرب بين الجيش والدعم السريع من جهة والتي استخدم فيها الطرفان كل أنواع الأسلحة الثقيلة لتتحول المدينة إلى ميدان معركة سقط على إثرها كثير من الضحايا بين المدنيين، أما البعد الثاني فيتعلق بالنزاع بين العرب والمساليت من جهة أخرى والتي يتبادل فيه الطرفان التهم، وبينما يرى المساليت أن الدعم السريع منحاز وداعم للقبائل العربية في المعارك، يعتقد العرب أن الاستخبارات العسكرية تدعم قبائل المساليت بالسلاح.

بينما يتصل البعد الثالث بهجوم المجموعات المتفلتة على المدينة عقب كل اشتباك بين الأطراف، لتقوم بعمليات النهب والسلب ويخلف هذا الوضع حالات نزوح كبيرة ولجوء إلى دولة تشاد”.

وطالب دهب بالتحرك العاجل لإيجاد حل سياسي تفاوضي لتحقيق السلام بدعم من المجتمع الدولي ودول الإقليم”.

هشاشة أمنية

المحلل السياسي عبدالله رزق اعتبر أن “ما يحدث في مدينة الجنينة تعبير عن فراغ السلطة وتفلت الأوضاع وخروجها عن السيطرة، وهذه الأحداث امتداد للحرب التي تجري في العاصمة الخرطوم تمهيداً لانتقالها إلى الولايات ابتداء من شمال كردفان، وتفاقمها من معارك محدودة بين قوتين عسكريتين حول السلطة إلى حرب أهلية شاملة، وهي من ناحية أخرى دلالة على الهشاشة الأمنية التي ظل يعانيها إقليم دارفور لأكثر من أربع سنوات، وأصبحت تشهد مصادمات دورية مما يكشف عقم المعالجات الموقتة وضرورة اللجوء إلى معالجات دائمة تخاطب أصل النزاعات وجذورها”.

ويضيف رزق أن “أحد أعراض هذه الهشاشة هو التدخلات المتواترة لما بات يعرف بالميليشيات العابرة التي تجيء من تشاد وتلعب الدور الرئيس في إشعال النزاعات الدموية أو تغذيتها، كما تمثل أحداث الجنينة وما سبقها وما لحقها من تداعيات مماثلة شهدتها مدن الفاشر وكتم وزالنجي ونيالا وطويلة، اختباراً حقيقياً لجدوى ’اتفاقات جوبا‘ ووعود السلام التي حملتها، وقدرة قوى الاتفاق على التأثير الإيجابي في أوضاع الإقليم بإخراجه من أتون الحرب نهائياً إلى براح السلام السمح”.

ونبه المحلل السياسي إلى أن “أحداث الجنينة التي راح ضحيتها الآلاف تبرز بعداً مهماً في الأزمة السودانية، وتتعلق بضرورة شمول المعالجات والحلول وجذريتها، فالمحادثات الخارجية التي تجمع للمرة الأولى بين قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو لن تكون ذات جدوى إن اقتصرت على ترتيبات وشروط وقف إطلاق النار الدائم وبروتوكولات تقاسم السلطة بين الفرقاء، وبالتالي ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار مطالب سلام الجنينة ونيالا والفاشر وكتم وزالنجي، لأن المرحلة تتطلب الحلول الشاملة لكل القضايا وبمشاركة واسعة للأطراف كافة من أجل الخروج من نفق الأزمة المسدود”.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com