الفرعون والباشكاتب – نموذج لعلاقة فنية وإنسانية نادرة

0
الساحة الفنية بكل ضروبه ودوربه مليئة بالتنافس علي مستوي العالم، وقد يصل التنافس لمرحلة الغيرة والحرب، وهنالك امثلة حية ماثلة بيننا في الوقت الحالي: رونالدو وميسي( من جانب رونالدو طبعا، ميسي ما شغال بيهو كتير ومركز مع ابداعه) ونجد مثلا في مصر نموذج ام كلثوم وعبدالحليم، والساحة السودانية مصابة بهذا الداء الخبيث دون ذكر امثلة، وساحتنا النوبية ليست استثناءا( مكينا طبعا زيما قلنا ما عارف انه مكي ومتفرد بالتواضع المحير).
في ظل الاحتراب المدمر( ما قصدي ابرهة وحميدتي والله) نجد ان هرمينا وردي و وداللمين ميزتهما علاقة فريدة تكاد تكون نموذجا لما يجب ان يكون عليه التقدير بين القمم والسوامق، فكليهما استغلظ واستوي علي عرش الغناء طوال السنوات منذ خمسينيات القرن الماضي وحافظا علي تسيدهما لسوح الفن في السودان.
بعد ان حل كابوس الاسلاميين علي السودان بدأت هجرة الفنانيين لخارج الوطن لانه ليس من حق العصافير الغناء علي عروش دولة من يدعون التمكين الديني واقلاق مضاجع عبدة المال والسلطة، فر وردي باغاريده الي ليبيا ومن ثم استقر في مصر، قبل ان يواصل مواسم هجرته الي العديد من ارجاء المعمورة، وكذلك فعل ود اللمين، الذي ذهب الي ليبيا بدعوة مضروبة لاحياء حفلات للجالية السودانية، حيث تحايل عليه من نظموا حفلاته واتضح ان الغرض كان احياء جيوبهم، وتكبد المشاق للخروج من ليبيا بشاحنة اوصلته للحدود المصرية ومن ثم تكفل محبوه بترحيله للقاهرة.
كان وردي حينها في رحلة خارجية( اعتقد لدولة السويد) وعاد للقاهرة وفي مواجهته التزامات مالية لدفع اقساط شقة كان قد تملكها في منطقة المعادي.
ذات مساء دلف وردي الي شقة اصدقاء له للمؤآنسة، وكانت مجتمعات السودانيين الهاربين من جحيم الانقاذ فاعلة ونشطة سياسيا وفنيا وادبيا، جلس بعد ان خلع سترته، تحدث احد الحضور عن ظروف محمد الامين، وان هنالك مساعي لجمع مبلغ مالي لتوفير سكن ملائم لاستقراره، سكت وردي كأنه لم يسمع ما قيل.
بعد قليل تم توجيه الحديث مباشرة له: ياخ نحن عاملين كشف عشان نلم قروش لمحمد الامين.
هب وردي منفعلا ولبس سترته قائلا: انتو هسه بكلامكم ده مفتكرين انتو قاعدين تعملوا معروف في محمد الامين؟ محمد ده زول فنان وعنده معجبين وعشاق، وبطريقتكم دي بتقلل منو.
اخرج من جيبه مبلغا من المال حصيلة رحلته الخارجية: دي قروش ايجار الشقة ستة شهور، ولو احتاج لاي حاجة انا متكفل، وغادر.
فعل هذا عن طيب خاطر وانفعال لمعرفته بمكانة وقيمة محمد الامين، وفعل هذا و تعرض هو ذاته لمضايقات لا مجال لذكرها لسداد متأخرات شقته.
هكذا كان يعرف قدر ومكانة صنوه الاخر، وانفعل رغم صدق نوايا القائمين بامر تسكين الباشكاتب.
رغم فرية الغرور التي اشيعت عن وردي، الا انه عندما يتحدث عن رفقاء دربه، كان صوته يمتلئ بالاشراق، والغريب في الامر ان وردي كان يذكر اسماء الفنانيين مجردا، مثلا يقول: الكاشف/عبدالعزيز/عثمان/ابرايم(لابراهيم عوض،، ايوة كان بيقول: ابرايم، مش نوبي؟) سيد/ احمد، بل كان يذكر اسمه: محمد، ونادرا ما يقول وردي، الا ود اللمين، كان ينطق اسمه مفخما: محمد الامين.
الغريب في الامر سمعت تسجيلا صوتيا بعد رحيل ود الامين يقول فيه المتحدث: ود الامين اصوله من صواردة وتحديدا من جزيرة وايسي.
لا اعرف حقيقة الامر ولم اسمع بحديث كهذا من قبل، فوايسي هي الجزيرة الملهمة قبالة صواردة حيث صدح وردي معلنا قدومه للحياة ليملأ الكون ويشغل الناس، وهنالك منطقة في جهة الشايقية تسمي واويسي، وربما يوجد هذا الاسم في الجزيرة، ايا كان الامر فالنبع واحد، الاثنان نهلا من نهر الالحان وقطعا مشوارا ابداعياً ثراً و وهذبا وجدان شعبنا المغلوب علي امره غناءا وفنا وموسيقي وشنفا آذاننا بدرر عذبة ونقشا علي صخرة الحياة نوتاتهم الفريدة بازاميل من نور، حطما الشكل التقليدي للغناء السائد وعزفا علي شغاف قلوبنا وشذبوا دواخلنا بروائع الالحان، واستطاعا توحيد السودانيين، حيث اختلفنا في كل شئ ما عدا عبقريتهما.
بعد ان لزم محمد وردي فراش المستشفي في وعكته الاخيرة، اعتلي محمد الامين خشبة المسرح وفرقته الموسيقية تعزف مقطوعة خوفي منك، والقي كلمة ثم اجهش بالبكاء كأنه قد احس ان الفجيعة آتية.
عند رحيل وردي، كان ود اللمين في بورتسودان لاحياء حفل هناك، انهار عند تلقيه الخبر، الغي حفلته وعاد ليشيع صديقه الحميم، لم يتمكن من الحديث للاذاعة التي كانت تنقل بث مباشر، وتناولت زوجته الهاتف وقالت للمذيع: محمد تعبان شديد وما قادر يتكلم، علاقته بوردي كانت وثيقة، وتحدثت عن مناسبة زواجهما وكيف ان وردي كان هو من يتولي امر تنظيم الزفاف وقام باصطحاب ود اللمين بعربته للكوافير وغنيا سويا، وانه شارك بالغناء في زواج انجالهما، وفي الخلفية كان صوت نحيب محمد الامين يقطع نياط القلب.
عند التشييع رأيت محمد الامين منهارا حتي ظننت انه قد تميته الحسرة، بعد ذلك احتجب لفترة طويلة، وعاد يقاوم احزانه بالغناء، بدأ الحفل الاول بالترحم علي صديقه ورفيق دربه الموسيقار الراحل محمد وردي عبر عن حزنه العميق لوفاة هذا الرجل القامة الكبيرة وقال: أنه توقف عن الغناء لفترة ولو كان يجدي ذلك لتوقف عن الغناء نهائيا حزنا علي وردي .. واستهل الحفل بمرثية الشيخ عبدالباقي حمد النيل مع التعديل ليكون رثاء لوردي:
غرار العبوس دار الكمال ونقاص
دوبة حليل أبوي (للفنون) دراس.
وظل ود اللمين وفيا في حضور التأبين السنوي لوردي والمشاركة فيه بالغناء.
فيديوهات كثيرة تجعلنا نشعر بالفخر ونحن نقول: الاتنين ديل قاماتنا، وبيغنوا دويتو ويتبادلوا الادوار كاجمل ما يكون، فهاتوا مثيليهما لو تقدرون.
محمد الامين يغني الجريدة يعتلي وردي المسرح ويشاركه الغناء.
لو بهمسة، اصبح الصبح، نورالعين، بيني وبينك والايام.
سننتظر طويلا طويلا، ربما لاجيال قبل ان تلد حواء السودان من يدانيهما عبقرية،واخشي علي اجيالنا من التلوث السمعي والبصري، فتلوث البيئة نتشارك فيه مع الجميع وموت الجماعة عرس.
ادناه تسجيل صوتي نادر لحفل يتبادل فيه العملاقان الاداء لاغنية لو بهمسة، لعبة تنس عجيبة وبينغ بونغ علي اعلي درجات الامتاع والحميمية، استمتعوا، الزمن ده المتعة بقت نادرة.
شكرا لوردي و ابواللمين عملتوا العليكم ومتعتونا بعطر الغناء ودسامة الموسيقي وفخامة الاداء، والهيبة،، الهيبة،، الهيبة، وقال: ثم ماذا؟
قال: الهيبة برضو.
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com