بين الأوامر والسياسة.. من يضبط إيقاع بنك السودان؟

منذ استقلال السودان عام 1956، ظلّ بنك السودان المركزي يعيش حالة من التبعية المتقلبة بين الحكومات المتعاقبة، ما أثر بصورة مباشرة على استقلال قراراته النقدية وقدرته على إدارة الاقتصاد الوطني بفعالية.
فقد تأسس البنك بموجب قانون 1959 ليكون الجهة المسؤولة عن إصدار العملة وتنظيم السياسة النقدية، لكنه بدأ مسيرته تحت إشراف الحكومة المركزية، ما جعل دوره التنفيذي أكبر من صلاحياته الاستشارية.
وعلى مدى العقود اللاحقة، تغيّرت تبعية البنك أكثر من مرة، من الحكومة المركزية إلى وزارتي المالية والاقتصاد، ثم إلى رئاسة الجمهورية، فمجلس الوزراء، وأخيرًا مجلس السيادة بموجب تعديلات 2024. ومع كل انتقال، كانت استقلالية البنك تتراجع أمام هيمنة السلطة التنفيذية، وسط تساؤلات مستمرة حول مدى قدرة المؤسسة على اتخاذ قرارات نقدية بمعزل عن الأجندة السياسية.
ورغم اعتماد البنك على أدوات نقدية متنوعة لضبط السوق — من أسعار الفائدة ونسب الاحتياطي إلى سياسات التمويل الإسلامي — فإن التحدي الحقيقي ظل في إيجاد توازن بين تمويل الحكومة وضبط التضخم والمحافظة على استقرار العملة، دون أن تتأثر قراراته بتقلب مراكز النفوذ.
تجارب دول إفريقية عديدة قدّمت نماذج مختلفة لتجاوز مثل هذه المعضلات؛ ففي جنوب إفريقيا ونيجيريا وكينيا جرى تعزيز استقلال البنوك المركزية عبر قوانين تربطها بالسلطة التشريعية لا التنفيذية، وتمنحها صلاحيات محمية من التدخل السياسي المباشر.
ويؤكد خبراء اقتصاديون أن إصلاح بنك السودان يتطلب إطارًا قانونيًا واضحًا يحدد تبعيته لجهة تشريعية مستقلة، وتشكيل مجلس إدارة كفء بولايات زمنية متدرجة تضمن استقرار القرار النقدي. كما أن تطوير سوق المال المحلي وتعزيز الشفافية عبر تقارير دورية يُعدّان شرطين أساسيين لبناء الثقة.
وبينما لا يزال البنك يتحرك بين الأوامر والضغوط، تظلّ استقلاليته الحقيقية رهينة قرار سياسي جريء يضع المصلحة الاقتصادية فوق الحسابات المؤقتة. فالسؤال الذي لم يُجب بعد هو: من يضبط إيقاع بنك السودان… البنك نفسه أم السلطة التي تُملي عليه النغمة؟