ملفات الحرب (الناعمة) تنتظر حكومة حقيقية تنفض عنها الغبار!!
ملفات الحرب (الناعمة) تنتظر حكومة حقيقية تنفض عنها الغبار!!
أحمد غباشي
في ٢٥ أكتوبر المقبل يكمل السودان ثلاثة أعوام وهو يمضي دون حكومة حقيقية كاملة الدسم.. وقد مرَّ، حتى الآن، ١٧ شهرا من أشهر الحرب العجاف ودفة البلاد تدار بحكومة تسيير أعمال ناقصة وقاصرة عن مطلوبات الظرف الحرج، وعن سد الفراغات الكبيرة، سواء في ساحة النزال، أو في ساحة العمل لتدبير معاش العباد الذين أنهكهتم شدة المؤونة وضيقها أكثر مما أنهكهم دوي القنابل وأزيز المدافع وألسنة اللهب وأعمدة الدخان!!.
ولقد بحَّت حلوق الخبراء والمحللين السياسيين من الوطنيين الغيورين، وهم يحاولون توضيح ذلك لقيادة الدولة السودانية ودفعها للمسارعة بتشكيل حكومة حقيقية، مستفيدة من ظرف الاستهداف الذي وفَّر لها حاضنة عريضة من القوى السياسية والكيانات الوطنية، بجانب التفاف شعبي غير مسبوق في تاريخ أنظمة الحكم التي تعاقبت على السودان بعد خروج المستعمر.
إن الوقت قد حان لميلاد حكومة مسنودة بشرعية شعبية حقيقية، شريطة أن تكون ذات برنامج واضح مستوعب لمتطلبات الواقع الآني وتحدياته، وتطلعات السودانيين لتحقيق النصر وتجاوز المحنة وبناء ما هدمته يد التآمر.
صحيح أن جيش السودان والكتائب المجاهدة بجواره قد فاتوا حدود الممكن في صد أكبر مؤامرة تواجه البلاد في أعنف موجاتها، وسدُّوا مسدَّها في الميدان، ولكن هناك مساحات كبيرة في معركة الوجود هذه لا يغني عنها إلا عمل سياسي جاد مضني، فالمعارك تكسب بالسياسة وحسن التدبير أكثر ما تكسب بالنزال والجلاد.
لقد كسب النبي ﷺ أخطر معارك الوجود التي واجهتها الأمة المسلمة، في صدرها الأول بالسياسة، ففي غزوة الأحزاب تمكن من صد هجوم أكبر تحالف جيوش عرفته جزيرة العرب في ذلك الوقت، وكان عداده (١٠،٠٠٠ آلاف جندي) يفوق عداد كل سكان المدينة النبوية!!.. تمكن النبي ﷺ من هزيمته وصده بالسياسة فقط دون الحرب، حين استفاد من الحنكة السياسية لمسلم حديث الإسلام، هو نعيم بن مسعود، فأوكل له المهمة حين قال له: (خذِّل عنا فإن الحرب خدعة).
وفي معركة الوجود في السودان هناك أعمال كبيرة تحتاج حكومة جيدة السبك والاختيار لإنجازها، ومن أهم تلك الأعمال (ملفات الحرب الناعمة)، أعني تلك الملفات التي لا تحتاج جنرالًا ليعالجها، ولا تتطلب مدافع ولا طيران، بل تحتاج إلى جهد الساسة النافذين في جسم الدولة.
وهناك ثلاثة ملفات هي من أهم تلك الملفات التي تقع تحت وصف الحرب الناعمة وتنتظر حكومة تديرها، أول تلك الملفات:
ملف القبائل، أعني القبائل التي توصف بأنها حواضن للتمرد، فهناك جهد كبير كان يجب أن يُبذل بينها، وحقيقة الأمر أن المليشيا قد استغلت طموح الطامحين من بعض زعامات تلك القبائل، وأثارت عصبيتهم، كما استغلت خوف البعض الآخر من الزعماء وعجزهم، مع شعورهم بانكشاف ظهورهم أمامها وأمام مناصريها!!.. فكثير من زعماء تلك القبائل لم يكونوا راضين عن الزج بقبائلهم في أتون هذه المحرقة، ولكنهم أفاقوا على البساط وقد سُحب من تحت أقدامهم بفعل الأموال التي سكبها المتآمرون، بلا حساب، تحت أقدام أبناء أولئك الزعماء ونوابهم ووكلائهم، ثم بإثارة النعرة العصبية وأحلامها البلهاء، التي قرعت قادة المليشيا طبولها فاستهووا بها الأغرار من فتيان القبائل، الذين اعتادوا التفلُّت خلال سنوات الحرب الطويلة في دارفور، ونزاعاتها القبلية العبثية.. فوجد شيوخ القبائل أنفسهم أمام رياح سموم عقيم، فألجأهم عجزهم إلى التزام الصمت بينما كانت نار الفتنة تلتهم هشيم ولدانهم.
إن ملف القبائل هذا لهو من أهم الملفات التي تؤكد حاجة المعركة إلى جهد محترفين سياسيين يحسنون إدارته مستغلين كافة الإمكانات التي يمكن أن ترد تلك القبائل إلى الموقف الوطني الصحيح، وذلك من خلال حراك جاد داخلها، بدلاً من التسليم بوهم تريد المليشيا إثباته؛ وهو أن كل تلك القبائل تقف خلفها، في حين أن الواقع يقول أن تلك القبائل ليست خالصة لها، بل الكثرة الكاثرة تقف ضد مشروعها، بل تساند إسقاطه، وتكافح ضده؛ على نحو ما يحدث في (بابنوسة) وغيرها.. وهذا الجهد يجب أن تقوم به الدولة من خلال حكومة حقيقية تمارس هذا الدور السياسي، لأنها هي التي تملك إنفاذ ما يقابله من تعهدات.
يدعم ذلك أن هناك جهودًا تمت من خلال بعض المبادرات، ففي الأشهر الأولى للحرب تمكن بعض النُّظار في بعض القبائل من سحب عدد لا يستهان به من أبناء قبائلهم من المعارك في الخرطوم وإعادتهم إلى الديار.. والآن على سبيل المثال ينشط حراك ما يسمى بالتنسيقيات، حيث اندرج عدد من رؤوس القبائل وأعيانها ومثقفيها في تنسيقيات تعمل على رفع الغطاء القبلي عن المليشيا.. وهذه جهود تحتاج إلى إسناد ومتابعة من الدولة، ولابد أن تضطلع بذلك حكومة ذات صلاحيات كاملة، بدلاً من أن يترك الأمر لرأس الدولة المشغول بإدارة ملفات الحرب الخشنة بوصفه قائد الجيش.
والملف الثاني هو؛ ملف السياسة الخارجية، هو أيضاً من الملفات المهمة جداً في خضم هذا الصراع، وهو أيضاً يحتاج لأن يدار من داخل أروقة وزارة خارجية كاملة الصلاحيات، ثم يعاد سبك مشروعاته وخططه ومعاركه في اجتماعات مجلس وزراء يليق بحكومة حرب!..ولسنا نقلل من الجهود التي تبذل هنا وهناك، بالذات ما يقوم به ممثل السودان في مجلس الأمن الحارث إدريس، ولا من الاختراقات والمكاسب التي حصلها السودان في منظمة التعاون الإسلامي.. ولكن هناك حاجة ماسة للعمل على تطوير علاقات السودان الخارجية مع الدول المؤثرة على القرار الدولي، والدول التي يمكن أن تؤثر على مسار الحرب، ويحتاج السودان لإحداث اختراقات في دول الجوار ودول المحيط الإقليمي، والتوصل إلى تفكيك شبكة الإسناد الدولي التي تمد المليشيا بالمقاتلين المرتزقة من دول الجوار، كما تمدها بالعتاد والسلاح للاستمرار في قتل السودانيين وتشريدهم.
والملف الثالث هو؛ ملف الإعلام، هو من أكثر الملفات التي يتجسد فيها القصور بشكل مزعج، على المستوى الداخلي أو الخارجي..فالإعلام الحربي يكاد يكون غائبًا إلا من بعض البيانات والتعميمات والتصريحات الصحفية، بين الفينة وأختها، يصدرها الناطق باسم القوات المسلحة، ثم تمرُّ الأحداث الجسام بلا تعليق ولا تعقيب، بينما يعج العالم السايبروني بمئات الصفحات والحسابات التي تملأ فراغ الإعلام الرسمي بكثير من الحشو والحشف الذي يخلط الحقيقة بالتكهن وبالإشاعة، وبعض المناصرين للجيش من المدونين على صفحات التواصل الاجتماعي يضرُّون بالقضية من حيث يريدون النفع، في الوقت الذي تنفث فيه الغرف الإعلامية الموالية للمليشيا، والقنوات الفضائية المموَّلة من حليفتها الإمارات، تنفث سحرها في كل العقد، ترويجًا للأكاذيب وقلباً للحقائق وتضليلًا للرأي العام.. وقنوات الإعلام الرسمي تجسد الفشل في أجلى صوره!.. فحين يجد المواطن السوداني نفسه مضطرًا لاستقاء الأخبار والاستماع للتحليلات من مصادر يعلم في قرارة نفسه انحيازها لعدوهـ واعتمادها قلب الحقائق وتزييف الوقائع، فذلك هو الفشل بعينه.
صحيح أن هناك قنوات وطنية مستقلة؛ مثل طيبة، والزرقاء تبذل جهدها في ملء الفراغات التي خلفها غياب الإعلام الرسمي، إلا أن تلك المجهودات المشكورة لن تُغْني غَناءَ إعلام الدولة الذي يجب أن يقوم، في مثل هذه الظروف، على خطة واضحة الأهداف، يتكامل فيها الإعلام القومي بكامل أجهزته من تلفزيون وإذاعة وصحافة ووكالات أنباء ومواقع إلكترونية وصفحات تواصل اجتماعي مع الإعلام العسكري، مستفيدا من عجيج الإعلام الجديد، ومسنودًا بجهود الفضائيات الوطنية غير الحكومية، لإبراز جبهة داخلية متماسكة، ومتوحدة خلف الهدف الواضح وهو دحر هذه المليشيا الهمجية وإخماد فتنتها إلى الأبد.
هذه الملفات الناعمة لها الأولوية بجانب ملفات أخرى عاجلة مثل؛ الملف الاقتصادي، وما تحتاجه الدولة لإدارة اقتصاد حرب، وما يستتبع ذلك من صرف على التسليح وتكاليف القتال، والإشكالات الأخرى مثل إعادة تعمير المرافق الحيوية التي عبثت بها يد التمرد ودمرتها بعبثيتها، والعملة الوطنية التي تم إغراقها بعمليات التزييف الممنهج، بعد الاستيلاء على مطابع العملة، ومرتبات العاملين بالدولة المتوقفة منذ اندلاع الحرب، بل قبلها، بالإضافة إلى ما يتصل بمعاش الناس، وتسيير دولاب الدولة، بجانب ملفات الكساد وتعطل الإنتاج، ومشاكل تمويل الموسم الزراعي.. إلخ.
بالإضافة إلى ذلك فالبلد بحاحة لوضع خطط واضحة وموحدة في كل القطر لمستقبل التعليم والعام الدراسي، ومتابعة أوضاع السودانيين النازحين واللاجئين وكل المتأثرين بالحرب الذين بقوا في مناطقهم التي وقعت تحت سيطرة المليشيا، والمتأثرين بالفيضانات والسيول..وملف الأمن، وملف الصحة التي تواجه أوضاعاً كارثية بكل المقاييس بعد تدمير المرافق والمستشفيات، والنقص الحاد في الدواء، والكوادر الطبية وظروف عملهم الخطرة.
كل تلك القضايا لا يمكن أن تدار من قبل رأس الدولة وقائد الجيش ومساعديه، وقلة من الوزراء المكلفين!.. كما لا يمكن أن تنفرد بالتقرير فيها الحكومات الولائية كما هو واقع الحال الآن..
وهذا الوضع الأخير هو من أكبر التحديات التي تؤكد الحاجة العاجلة لحكومة حقيقية كاملة الصلاحية!.. فحين تتحول أكثر الملفات حيوية إلى إدارة كل ولاية على حدا، فهذا أمر من شأنه أن يحول السودان إلى جزر معزولة تنغلق فيه كل ولاية فيها وتستقبل بإدارة نفسها، مما يعني في الحقيقة خطوة واسعة نحو أزمة جديدة يمكن أن تشكل تهديدا بتفكيك البلاد.
قد يعجبك ايضا