
لم تكن عودة الروائي والكاتب السوداني مهند رجب الدابي إلى منزله في العاصمة الخرطوم مجرد رحلة اعتيادية بعد غياب استمر لعامين بسبب الحرب، بل كانت صدمة إنسانية وأدبية قاسية، واجه فيها مشاهد تفوق الخيال، على رأسها جثة متحللة لقنّاص مجهول وجدت في شرفته، ومكتبته التي قضى ثلاثين عاماً في بنائها وقد تحوّلت إلى رماد.
ففي حديث مؤلم خصّ به موقع “العربية.نت”، روى الدابي كيف وجد شقته خاوية تماماً من ملامح حياته الماضية، إلا من رائحة الموت التي تنبعث من جسد متحلل ظل ملقى في المكان لأشهر، في حين بدت الشرفة وكأنها كانت ثكنة عسكرية استخدمها القناص طوال فترة الحرب.
مكتبة أُحرقت.. وكتب نادرة أُستخدمت للطهي
لكن الجرح الأعمق، بحسب الدابي، لم يكن في الجثمان بل في مصير مكتبته الخاصة التي كانت تضم أكثر من ألف عنوان، بعضها نُسخ أصلية نادرة وموقعة بأقلام كبار المؤرخين والعلماء، أمثال البروفيسور مكي شبيكة، والبروفيسور عون الشريف قاسم، والمؤرخ حسن نجيلة، ونعوم شقير.
قال الدابي: “لقد وجدت مكتبتي، التي كانت تمثل خلاصة عمري الأدبي والفكري، وقد أُحرقت بالكامل. يبدو أن القناص الذي احتل الشقة كان يستخدم صفحات الكتب لإشعال النار وتحضير الطعام. لقد كانت كتبي تُستهلك حرفياً لغلي الماء”.
وأضاف: “هذه المجلدات لم تكن مجرد أوراق، بل كانت إرثاً معرفياً وطنياً يفترض أن يُعرض في المتاحف لا أن يتحول إلى وقود”.
فقدان أدلة علمية عن جرائم في جبل مويا
ولم تقتصر الخسائر على الكتب فقط، إذ كشف الدابي عن فقدانه مواد بحثية حساسة، من بينها جماجم وعظام بشرية كان يحتفظ بها ضمن دراسة حول مقبرة جبل مويا بولاية سنار. وأوضح أن تلك العظام كانت تُعد دليلاً على انتهاكات طبية مارستها مؤسسة أجنبية بحق أطفال سودانيين، وقد اختفت تماماً بعد احتلال منزله.
وقال بأسى: “فقدان هذه العظام لا يعني فقط ضياع بحث علمي، بل أيضاً ضياع حق آلاف الأطفال الذين راحوا ضحية تجارب وحشية”.
ذاكرة أدبية مسروقة
ومن أكبر خسائره أيضاً، أشار الدابي إلى فقدان جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به، والذي احتوى على أرشيفه الأدبي الممتد لأكثر من 15 عاماً. من بين الأعمال التي ضاعت معه، روايات مثل “سهارا”، “مزاج الشيطان”، و”الغزالة واو”، وجميعها كانت على وشك النشر.
وجه الروائي نداءً عبر وسائل الإعلام قائلاً: “أنشر هذا النداء باسم الأدب، لعل من يجد الجهاز يتحلى بالنزاهة ويعيد لي جزءاً من ذاكرتي. تلك الروايات هي حياتي، وسرقتها هي سرقة ثانية بعد الحرب”.
الخرطوم.. مدينة خرساء تنطق بلغة الفقد
ووصف الدابي العاصمة السودانية الخرطوم بأنها تحوّلت إلى “مدينة خرساء”، مشيراً إلى الخراب الذي حل بأحيائها ووجوه ساكنيها، الذين بالكاد يستطيعون قول “السلام عليكم”. وأكد أن الحياة اليومية باتت شاقة بشكل لا يُطاق، قائلاً: “للحصول على الخبز أو الزيت أو حتى شحن الهاتف، تحتاج إلى السير لأكثر من 10 كيلومترات دون مواصلات”.
ومن المفارقات المؤلمة التي واجهها، تحدث عن ظاهرة “ألفة الغرباء”، حيث التقاه أشخاص يدّعون معرفته وسردوا تفاصيل دقيقة عن حياته، رغم أنه لم يرَهم من قبل. وقال: “كنت أشعر بأنني أعيش في نسخة مشوهة من ذاكرتي”.
الكاتب الذي فضح جرائم الاستعمار
يُذكر أن مهند رجب الدابي، البالغ من العمر 40 عاماً، هو كاتب وروائي معروف، أثار الجدل بروايته “أطياف هنري ولكم”، التي وثّق فيها استخدام الأطفال السودانيين في تجارب علمية خلال فترة الاستعمار البريطاني. كما أنه يشغل منصب مدير “مؤسسة نيرفانا الثقافية”، التي تحوّلت إلى موقع عسكري خلال الحرب.
قصته ليست مجرد عودة إلى منزل، بل شهادة حية على ما خلفته الحرب من دمار نفسي وثقافي واجتماعي، وما زالت الخرطوم حتى اللحظة تئنّ من تحت ركام ذاكرة لا تجد من يعيد ترتيبها.