مقالات الراى
السودان: صراع خفي وتدخلات دولية.. هل يغير المرتزقة وجه الحرب؟

السودان: صراع خفي وتدخلات دولية.. هل يغير المرتزقة وجه الحرب؟
شهدت حرب أبريل/نيسان 2023 في السودان تحولًا جذريًا مع تزايد الحديث عن تدخل واسع للمرتزقة والمجموعات الأجنبية، لا سيما إلى جانب قوات الدعم السريع. هذا التدخل لم يضف أبعادًا جديدة للنزاع فحسب، بل جعله قضية إقليمية ودولية معقدة، تثير تساؤلات حول مستقبل الأمن والاستقرار في المنطقة. فما هي حقيقة هذا الوجود الأجنبي، وما تأثيره على مسار الأزمة السودانية؟
من هم المرتزقة في السودان؟ خريطة التدخل الأجنبي
لم يقتصر الوجود الأجنبي في حرب السودان على جنسيات محددة، بل امتد ليشمل أفرادًا من دول متعددة، بعضها مجاورة للسودان مثل ليبيا، تشاد، جنوب السودان، وكينيا، وصولًا إلى النيجر والكاميرون. كما لوحظ وجود عناصر من دول أبعد مثل روسيا وكولومبيا، بالإضافة إلى أطراف إسرائيلية وإقليمية. هذا التنوع في الجنسيات والخبرات يشير إلى شبكة معقدة من التدخلات، حيث قدمت بعض المنظومات شبه الرسمية دعمًا عسكريًا ولوجستيًا وفنيًا وتقنيًا، وتسهيلات في استضافة معسكرات التدريب ومصانع الطعام والتجهيزات والصيانة.
الأهداف الخفية وراء استقدام المرتزقة: تحول الصراع السوداني
إن استخدام هذا العدد الهائل من المرتزقة والمهاجرين واللاجئين في حرب السودان، بالإضافة إلى الأموال والموارد الضخمة التي صُرفت عليهم والإغراءات بغنائم الحرب، يكشف عن عقلية المخطط والراعي الإقليمي وما وراءه من تشابكات. هذا الأمر يمثل تحولًا خطيرًا في طبيعة الصراع، من نزاع داخلي إلى حرب عابرة للحدود، مما يضفي على المعارك بعدًا استراتيجيًا يهدد الأمن القومي والإقليمي معًا. لقد منحت هذه التدخلات النزاع قدرة على الاستمرار والتصعيد، وقلصت فرص الحلول السياسية الداخلية، مما يزيد من تعقيد الأزمة السودانية.
انتهاكات وجرائم حرب: الثمن الباهظ للتدخل الأجنبي
أدى هذا النمط من التجنيد العشوائي إلى إدخال عناصر غير منضبطة وغير مرتبطة بأجندة وطنية، مما زاد من حتمية ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات واسعة النطاق. لقد تحول السودان إلى ساحة لتقاطع مصالح خارجية تُدار بأدوات بشرية مستأجرة، الأمر الذي يهدد استقرار المنطقة بأسرها والأمن والسلم الإقليمي. هذه الانتهاكات تضع عبئًا إضافيًا على المدنيين وتزيد من معاناة الشعب السوداني.
أنواع المقاتلين والخبرات الأجنبية في السودان
تضمن التدخل الخارجي مجموعات متنوعة من المقاتلين والكوادر، بما في ذلك:
•ضباط وخبراء عسكريون: من روسيا وكولومبيا، متخصصون في التخطيط العملياتي، التدريب، وتشغيل المدفعية والطائرات المسيرة.
•مرتزقة أفارقة وعرب: كانوا موجودين بالسودان كلاجئين أو أصحاب أعمال أو طلاب، من اليمن، سوريا، إريتريا، إثيوبيا، والكاميرون.
•فنيون متخصصون: في صيانة العربات والآليات، تشغيل أجهزة الاتصال الحديثة، واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والمراقبة.
•كوادر إعلامية وتقنية: مسؤولة عن الإسناد الإعلامي العسكري، والترويج الإعلامي للنزاع.
•كادر عمالي: من سائقين وميكانيكية، امتد دورهم ليشمل سرقة السيارات ونهب منازل المواطنين.
أدوار المرتزقة في الحرب السودانية: مهام عسكرية واقتصادية وإعلامية
شمل دور المرتزقة والوجود الأجنبي مهام متعددة في الجوانب العسكرية، التقنية، الاقتصادية، والإعلامية:
•المهام العسكرية: المشاركة في القتال المباشر، القنص، الاغتيالات المستهدفة، التفجيرات، وتشغيل المدفعية بعيدة المدى.
•المهام التقنية والفنية: إدارة الطائرات المسيّرة، نظم المراقبة والاتصالات، أجهزة كشف الذهب والمجوهرات والتحف داخل الأعيان المدنية ومساكن المواطنين، وتدمير الأرشيف الوطني والآثار.
•المهام الاقتصادية: تشغيل خطوط إنتاج صغيرة، إدارة المخازن، توزيع الطعام والشراب، الملابس، الأحذية، وأحيانًا تجارة المخدرات وغيرها.
•المهام الإعلامية: الإسناد الإعلامي العسكري، الترويج للنزاع، وإدارة المراكز الإعلامية المخصصة لتضليل الرأي العام، أو تعزيز النفوذ العسكري.
المعدات العسكرية وأثرها على العلاقات الخارجية للسودان
تنوع التدخل الخارجي ليشمل معدات عسكرية متقدمة، منها العربات المدرعة، المدفعية، الصواريخ، الراجمات، مضادات الطائرات، أجهزة الاتصال الحديثة، والطائرات المسيرة، ومعدات المراقبة والتجسس. هذه القدرات فرضت على الحكومة السودانية التواصل المكثف مع الدول الموردة للمرتزقة لضبط نشاط مواطنيها، وتأكيد سيادة السودان. وقد أعربت كولومبيا عن أسفها لتورط مواطنيها، وأبدت استعدادها للتعاون مع الخرطوم لمنع تكرار التدخل. كما أجبرت التدخلات الروسية والإسرائيلية والإقليمية السودان على فتح قنوات تفاوض لضبط النشاط العسكري الخارجي، مع مراعاة المصالح الاقتصادية والاستثمارية. جرى أيضًا التواصل مع دول الجوار، مثل ليبيا، تشاد، جنوب السودان، كينيا، والنيجر لتقنين نشاط المجموعات الأجنبية، ومنع استخدام أراضيها كمعابر للمرتزقة والمعدات، مما ساعد في تعزيز التنسيق الإقليمي وإظهار قدرة السودان على إدارة النزاع دبلوماسيًا.
إحكام وضبط الوجود الأجنبي: تحديات وحلول مقترحة
أثبتت هذه الحرب ترابطًا وثيقًا بين المرتزقة والمكونات الأجنبية الموجودة أصلاً في البلاد، سواء ما اتصل باللجوء أو الهجرات غير الشرعية. لذا، فإن تنظيم وضبط الوجود الأجنبي في السودان يستدعي تبني منظومة متكاملة من التشريعات والقوانين والإجراءات التي تكفل التعامل الرشيد مع هذه الظاهرة، بما يحد من مخاطرها الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والصحية. يتطلب ذلك إحياء وتفعيل التعاون الثنائي والإقليمي والدولي مع الدول المتسببة في تدفقات الهجرة غير النظامية، بما في ذلك إعادة بعض الوافدين وفق آليات إنسانية وقانونية متفق عليها. كما يقتضي الأمر إشراك إدارة شؤون اللاجئين وإدارة الهجرة غير الشرعية والأجهزة المعنية في صياغة وتنفيذ السياسات لضمان معالجة متوازنة تجمع بين حفظ الأمن القومي والسيادة الوطنية، ومكافحة الجريمة المنظمة والتهريب والمخدرات، وبين الوفاء بالالتزامات الإنسانية والدولية، وبما يسهم في الحد من تفشي الأمراض والأوبئة، وتحويل التحدي إلى مجال منظم للتعاون والتنمية.
خلاصة: السودان بين تحديات الحرب وفرص الدبلوماسية
رغم الآثار الكبيرة والمتعاظمة على البلاد في حجم الجرائم والفظائع التي ارتكبت والنهب والسرقة والفقد، شكل تدخل المرتزقة والوجود الأجنبي في حرب أبريل/نيسان 2023 تحديًا استثنائيًا للسيادة الوطنية والأمن الداخلي، لن يكون قاصرًا على السودان وحده، بل سيمتد إلى الجوار والإقليم. لقد كشف هذا التدخل عن أبعاد وثغرات كبيرة وهشاشة في بعض أجهزة الدولة في ضبط أراضيها وحدودها، وإجراءات الإقامة وسلامة مواطنيها، أمام التدخلات الإقليمية والدولية. وفي الوقت ذاته، مثل هذا التدخل فرصة استراتيجية للسودان لإعادة رسم أولوياته الدبلوماسية، وتعزيز قدرته على إدارة الأزمات متعددة الأبعاد. فقد فرضت الواقعة على الحكومة السودانية فتح قنوات تفاوضية مع الدول الموردة للمرتزقة باعترافها، وضمان التزامها بالحد من التدخلات المستقبلية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على المصالح الاقتصادية والاستثمارية مع هذه الدول. كما أبرزت الأزمة أهمية تنسيق الجهود الإقليمية والدولية لمراقبة الحدود، ومنع استخدام أراضي الجوار كمعابر للمرتزقة والسلاح والمعدات، مما عزز من مصداقية السودان في إدارة النزاعات، وفرض نفوذه الدبلوماسي. إضافة إلى ذلك، سلطت الأزمة الضوء على الدور الحاسم للسياسة الخارجية في الربط بين الأمن والاقتصاد والإعلام، حيث أصبح التحرك الدبلوماسي أداة أساسية لضبط التأثيرات الخارجية، وحماية مصالح الدولة، واستعادة الثقة الإقليمية والدولية. بالتالي، يمكن القول إن إدارة الحكومة لهذه الأزمة تمثل نموذجًا لتوظيف مخاطر الحرب لجهة المطالبة بالتعويض عن الأضرار ولكيفية تحويل التحديات العسكرية والأمنية إلى فرص لتعزيز العلاقات الخارجية، وإعادة تأكيد سيادة الدولة، وإبراز السودان كفاعل قادر على التعامل مع التدخلات المعقدة متعددة الأبعاد، مع الحفاظ على مصالحه الوطنية والاستراتيجية في بيئة إقليمية ودولية متشابكة.