المغتربون السودانيون.. صمود أسطوري في مواجهة شدة الحرب

المغتربون السودانيون.. صمود أسطوري في مواجهة شدة الحرب
الخرطوم –
لم تتوقف الحرب التي اندلعت في السودان في الخامس عشر من أبريل 2023 عند حدود الوطن الجغرافية، بل امتدت بظلالها الثقيلة إلى قلوب وجيوب ملايين السودانيين المقيمين خارج البلاد. فبين ليلة وضحاها، تحوّل المغتربون إلى بنوك طعام ومصادر دعم عن بعد، يمدون أسرهم وأصدقاءهم وبلداتهم بما يسد الرمق ويحفظ الحياة، في مشهد يعكس حجم الأعباء والمسؤوليات التي تحملوها في ظل واحدة من أعقد الأزمات التي مرت بتاريخ البلاد الحديث.
المغتربون.. بين القلق والدعم
مع بداية الحرب وما صاحبها من تشريد وانتهاكات واسعة، وجد المغتربون أنفسهم أمام اختبار قاسٍ. فقد عاشوا حالة من عدم الاستقرار النفسي، خاصة أولئك الذين تتواجد أسرهم في مناطق النزاع. انقسم نومهم بين الالتزامات المهنية والقلق على مصير الأهل، يعيشون حالة مزدوجة من الحنين والخوف، ويواجهون ضغوطاً مادية ونفسية جعلت كثيراً منهم يدخلون في دوامة من التقشف أو العمل الإضافي لتغطية النفقات الجديدة.
مبادرات التضامن عبر العالم
لم يقف المغتربون مكتوفي الأيدي، بل أطلقوا عبر منصات التواصل الاجتماعي مبادرات متعددة لتوفير الغذاء والدواء ودعم الأسر المتضررة والأيتام.
يقول أحمد، شاب سوداني مقيم بالسعودية: “منذ بداية الحرب أصبحنا نتعاون عبر مجموعات الواتساب لدعم أهلنا. الأولوية الآن إرسال المال وتوفير ممرات آمنة للأسر، حتى تحيات (صباح الخير) و(مساء الخير) من الداخل صارت تحمل استغاثة مبطنة”، على حد تعبيره.
وفي ذات الاتجاه، يروي مغتربون في الإمارات وأمريكا وكندا معاناتهم بين الالتزامات المهنية في الغربة وبين القلق المستمر على أسرهم في الداخل. بعضهم اضطر لاستخراج إقامات لذويه، وآخرون ساعدوا في نقل أسر كاملة إلى دول الجوار، فيما واصل آخرون دعم مبادرات علاجية وخيرية لتخفيف آثار الحرب.
تأثيرات نفسية عميقة
لم تتوقف الخسائر عند الجانب المالي فحسب، بل تجاوزته إلى الجانب النفسي والاجتماعي. تقول عزة، المقيمة في الولايات المتحدة: “كنت أحلم دائماً بالعودة إلى السودان، لكن ظروف الحرب قتلت تلك الأمنية. رغم أن المعارك خفت قليلاً، إلا أن الخوف من تجددها يجعل فكرة العودة شبه مستحيلة”.
أما فتحي، المقيم في أمريكا منذ 1998، فيوضح أن التشتت الأسري بين السودان ومصر ودول الخليج جعله يعيش حالة من الإرهاق المستمر: “أرهقني تدبير احتياجات أهلي في أكثر من بلد، وصرنا نعيش بين التزامات هنا وهناك دون توقف”.
الاقتصاد السوداني وتحويلات المغتربين
بحسب الخبير الاقتصادي كمال كرار، فإن عدد السودانيين بالخارج قبل الحرب كان يقدر بنحو 10 ملايين شخص، بينما لجأ أكثر من 4 ملايين آخرين إلى دول الجوار منذ اندلاعها.
ويضيف كرار أن تحويلات المغتربين كانت تمثل 4 إلى 6 مليارات دولار سنوياً، لكنها اليوم باتت المنقذ الوحيد لآلاف الأسر بعد أن فقدوا مصادر دخلهم في الداخل. كثير من المغتربين اضطروا للاستدانة أو العمل الإضافي، بينما استقبل آخرون أسرهم في بلدان الإقامة، ليتضاعف العبء مع توفير السكن والتعليم والصحة.
أبعاد اجتماعية وإنسانية
تؤكد الخبيرة الاجتماعية أسماء جمعة أن صورة المغترب المثالية قبل الحرب لم تكن دقيقة، فحتى قبل اندلاعها كان كثير من الأسر يعتمدون على تحويلات أبنائهم بسبب هشاشة الأوضاع الاقتصادية. ومع الحرب تضاعفت الضغوط: “النزوح واللجوء وتشتت الأسر ضاعف من أعباء المغتربين، وأي تقصير منهم ينعكس مباشرة على استقرار أسرهم في الداخل، مما يخلق أثراً نفسياً واجتماعياً عميقاً”، تقول جمعة.
بين الصمود والأمل
ورغم كل هذه المعاناة، يتمسك المغتربون بالأمل في أن تكون مساهماتهم المالية والمعنوية بذرة لإعادة البناء متى ما وضعت الحرب أوزارها. تقول نهلة، المقيمة في القاهرة: “ما نحتاجه هو الأمن والخدمات الأساسية. يمكننا أن ننقل خبراتنا المهنية ونعيد الإعمار، لكن الشرط الأول هو وقف الحرب”.
خلاصة
المغتربون السودانيون اليوم ليسوا مجرد داعمين لأسرهم، بل هم شريان حياة لاقتصاد وبلاد أنهكتها الحرب. بين قلق نفسي، وضغوط مالية، وحلم بالعودة، يقدمون نموذجاً نادراً للصمود والتضامن، لكنهم في الوقت ذاته يذكرون العالم بأن فاتورة الحرب لا يدفعها الداخل وحده، بل تمتد لتثقل كاهل ملايين السودانيين في الشتات